ظل الاعتقاد في العدالة كمبدأ لا يماثله مبدأ في أهميته لإصلاح حياة الإنسان اعتقاد راسخ لدى عديد من الفلاسفة ومفكرين رواد منذ بداية تاريخ الأفكار في بابل و أثينا وحتى العصر الحديث. وباعتبار أن هذا المفهوم “العدالة” مشترك إنساني يتجاوز حدود التاريخ و الجغرافيا، فقد خضع وبصفة مستمرة للمراجعة و التعديل لا بل وإعادة تشكيله من جديد مرارا وتكرارا، حيث ساهم في صياغته فكريا كثير من البشر، وعبروا عنه بممارساتهم وسلوكياتهم المختلفة باختلاف ثقافاتهم وأطرهم الحضارية توافقا مع متطلبات اللحظة التاريخية بغاية إصلاح البيئة الاجتماعية ضمن كل تصور جديد يحكم علاقات الناس ويحفظ شروط العيش المشترك.
متى يطرح السؤال كيف يمكن أن يصل الإنسان إلى أقصى قدر ممكن من السعادة ؟ إلا و يتبعه تشكك عميق بإيجاد جواب تتشكل ملامحه خارج ضوء مفهوم العدالة، جواب يمكن تلمسه في منظومة الأفكار والبديهيات لدى كل من اهتم بالأخلاق أو السياسة أو الاجتماع باعتبار هذه المجالات الثلاث تكاد تنحصر فيها جل الاجتهادات الفكرية بمختلف اتجاهاتها وتطوراتها وتضع الإنسان محور بحثها.
بالرجوع إلى التراث الفكري الإنساني الذي انبنت عليه التصورات القديمة يتبين بما لا يدع مجالا للشك، أن العدالة بأبعادها المختلفة و كفكرة قد حازت على أهمية بالغة في مضمار الفلسفة السياسية. كما أثار النقاش حول مسائل تمت بصلة إلى فكرة العدالة جدلا واسعا بين عامة الناس ونخبهم على حد سواء، منذ ظهور بذرة المعرفة وحتى عصرنا الحالي.
يعود بنا الحديث عن تاريخ العدالة إلى أزمنة موغلة في القدم . فقد أشارت كتابات من تاريخ بلاد الرافدين القديمة إلى اهتمام سكان ممالك عديدة، مثل بابل و آشور وغيرها، بمفهوم العدالة، وهو ما يعكسه القانون البابلي أو ما يعرف “بشريعة حمورابي” (1792-1750 ق.م)، إلا أن تصور البابليين هذا كان تصورا هرميا يراعى فيه خصائص النظام الطبقي الذي تأسست عليه تلك المجتمعات في أواخر الألفية الثالثة ق.م وهو حال كل المجتمعات البشرية تقريبا خلال حقب تاريخية غابرة.
خلال القرن الخامس ق.م شهدت بلاد اليونان القديمة ازدهارا تجاريا مكنها من بسط نفوذها على العالم. رافق ذلك تحولات اجتماعية و سياسية عرفتها أثينا التي أصبحت أول مختبر للديمقراطية في تاريخ البشرية. كل ذلك أدى إلى تقهقر التصورات القديمة، فاسحة المجال أمام بديل يعبر عن اتجاه فكري جديد لمفهوم العدالة ينم عن رصانة و عمق تفكير بات يتحلى به الأثينيون عبر الزمن، من ذلك تبدل نظرتهم تجاه الطبقية و التفاوت الاجتماعي. ومن هذه البيئة الاجتماعية الجديدة نشأ التصور الأفلاطوني لمفهوم العادلة كسمة بارزة من سمات المدينة الفاضلة التي نسج ملامحها خيال فيلسوف أثينا الطباوي،حيث اعتبر أفلاطون (429- 347 ق.م) أن الهدف الأسمى للعدالة هو تهذيب النفوس بتغليب الحكمة و العقل على النزعات و العواطف الإنسانية، كما يرى أفلاطون أيضا أن نظام المدينة لا يتأسس إلا في ظل علاقات مبنية على العدل بين الناس يتحقق من خلالها المنفعة للجميع.
في كتابه “الأخلاق” يتطرق أرسطو (384- 322 ق.م) إلى مفهوم العدالة بشيء من التفصيل، ويعتبرها فضيلة تكرس السعادة وترتقي بالحياة الجماعية إلى الأفضل مادام الناس يتفاعلون مع بعضهم البعض ويقتسمون الأعباء و المنافع. كما يتفق أرسطو مع سابقه أفلاطون فيما يعتقد أن الناس يختلفون عن بعضهم باختلاف أدوارهم (حكام، مشاركين في الحكم، محكومين، عبيد) في الوسط السياسي .
بعد قرون من عصر أرسطو، بما عرفته المجتمعات البشرية من إبداع ونتاج فكري غزير و بتأثير الدور الذي مارسته الكنيسة بأديولجيتها في الحياة العامة للناس بدعوتهم إلى إتباع تعليمات المسيحية و قيمها الإنسانية منها المساواة بين جميع البشر، تقلص نطاق انتشار التصورات السابقة عن العدالة، وتزحزح جزء منها عن موقعه الذي احتله لردهات من الزمن في الفلسفة السياسية، وبذلك أعاد الفكر الغربي حول العدالة تشكله من جذوره.
مع بداية عصر التنوير توسعت المناقشات في الفلسفة الأخلاقية و السياسية، فظهرت أنماط تفكير جديدة لدى خليط من المفكرين السياسيين و الاجتماعيين لم تتوافق رؤاهم مع منظومة الأفكار ووجهات النظر السائدة بشأن قضايا الإنسان فكانت العدالة، على غرار قيم إنسانية أخرى، محور تأملات هؤلاء على امتداد القرنين الثامن و التاسع عشر وأصبح من البديهي في خيالهم الفلسفي اعتبار أن البيئة الاجتماعية تتشكل بفعل الأعراف و الممارسات المتغيرة في الزمن و بالتالي فهي قابلة لأن تخضع لعملية الإصلاح و التجديد بجهد وإرادة بشرية إذا ما تطلب الأمر ذلك.
لقد كان للصياغات الفكرية الجديدة لفلاسفة الأنوار تأثيرات كبيرة وجوهرية في إحداث تحول جذرية شاملة عرفتها المجتمعات البشرية لاحقا، وكان وراء هذا المنعطف في التصورات الوجه الجديد الذي تشكلت عليه الحياة الاقتصادية و الاجتماعية للناس في أوروبا بفعل الثورة الصناعية مستفيدة من كل ثمرات الثورة العلمية من العلوم والاكتشافات التي تدفقت منذ القرن السابع عشر. كما تعتبر الثورة الفرنسية وما جاءت به من مبادئ جديدة عامل أساس أيضا أثر و بشكل حاسم لمدة عقد من الزمن في التغيرات الاجتماعية التي حصلت في المجتمع الأوروبي منذ سنة 1789. فطفت على السطح نظرية العدالة الاجتماعية باعتبارها جانب مهم من تصور أكثر شمولا للعدالة، وتهتم بكيفية تقاسم الأعباء و المنافع بين أفراد المجتمع بما يتوافق وبشكل متوازن مع مبدأ المساواة في القيمة بين جميع البشر مع مراعاة جانب القدرات والمواهب لدى الأفراد.
كان لثلة من المفكرين أمثال أدم سميث (1723- 1790) إيمانويل كانط (1724- 1804) و وسان سيمون (1760- 1825) ، وغيرهم ممن انتمى إلى المدرسة الكلاسيكية وكتب في الاقتصاد السياسي خلال القرن التاسع عشر، فضل كبير فيما عرفه مسار العدالة الاجتماعية من تطور على مستوى المفاهيم وصولا إلى جون راولز (1921- 2002) الذي توسعت مع فلسفته مضامين هذه النظرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. عبر مراحل ثلاث أساسية تبلورت نظرية العدالة الاجتماعية بدءا بتصور أول يقوم على مبدأ الاستحقاق (الحصول على المكاسب بقدر المساهمة في منفعة المجتمع) مرورا بتصور ثان يجعل من الاحتياج (المساهمة بحسب القدرة و الحصول على المكاسب بقدر الحاجة) ركيزة أساسية له، انتهاء بتصور ثالث مبدأه الأساسي الإنصاف (ما يساهم به كل فرد أو يحصل عليه من المجتمع يكون في إطار التعاون الاجتماعي.
في ختام موضوع الحديث يتفق جل أصحاب وجهات النظر المتعلقة بمفهوم العدالة في العصر الحديث أن الناتج الاجتماعي من ثروة ومهارات هو مشترك مجتمعي تتأثر علاقات الأفراد بالممارسات التي تنتهجها مؤسسات المجتمع في إدارتها وكيفية توزيعها لهذا الناتج ومن هذه الممارسات غالبا ما يتولد الظلم الاجتماعي الذي ما ن يبلغ منسوبه منتهاه إلا وقامت الثورات وخير مثال على ذلك ما حصل أخيرا من تحولات سياسية شهدها العالم العربي.